السبت، 14 فبراير 2009

إله الأشياء الصغيرة في طبعة جديدة


تصدر خلال الأيام القادمة الطبعة الجديدة من الترجمة العربية الكاملة لرواية (إله الأشياء الصغيرة) للروائية الهندية آرونداتي روي। يذكر أن هذه الرواية قد فازت بجائزة بوكر البريطانية 1997، وقد وزعت هذه الرواية في طبعتها الفرنسية أكثر من مليون نسخة وقت صدورها في باريس.

الجمعة، 5 ديسمبر 2008

كازو إيشيجورو
عندما كنا يتامى
رواية
طاهر البربري
إلى:
لورنا وناعومي
الكتاب الأول
لندن، 24 يوليو 1930
الفصل الأول
كان صيف العام 1923، الصيف الذي وصلت فيه من كامبريدچ. حيث قررت أن تكون العاصمة نقطة انطلاق لمستقبلي؛ رغم أمنيات خالتي التي كانت تنتظر عودتي إلى شروبشير. استأجرتُ شقة صغيرة في البناية رقم 14 في بيدفورد جاردينز في كينسينجتون. الآن أذكره لأنه أروع مواسم الصيف على الإطلاق. فبعد سنوات كنت محاطًا خلالها بالزملاء، سواء في المدرسة أو في كامبريدچ، صرت أبلغ منتهى المتعة وأنا في معية ذاتي. استمتعت بحدائق لندن، الهدوء في غرفة الإطلاع بالمتحف البريطاني؛ أمضيت ظهيرات كاملات أتجول في شوارع كينسينجتون، أضع خططًا لمستقبلي، أتوقف بغتةً ولبرهة لأعلن عن إعجابي باللبلاب والنباتات المتسلقة التي توجد هنا في إنجلترا، حتى في وسط المدينة العظيمة، وهي تزحف متشبثةً بواجهات البيوت الجميلة.
أثناء واحدة من تمشياتي الحرة تلك، التقيت مصادفة بأحد زملاء الدراسة القدامى، جيمس أوسبَورن، واكتشفت أنه أحد جيراني. خُيِّل إلىّ أنه ناداني عند مروره إلى جواري. وعلى الرغم من أنني لم أكن بعد مستعدًا لاستقبال زائرٍ واحدٍ في غرفتي، فقد دعوته بثقة، وأنا أنتقي الكلمات بعناية بالغة. لم يكن الإيجار مرتفع القيمة، إلا أن صاحبة البيت كانت قد أثثته بطريقة جميلة وذائقة رائعة استحضرت بتؤدة لمسة من العصر الفيكتوري الغابر؛ غرفة الصالون، التي تستقبل كثيرًا من الشمس في النصف الأول من النهار، بها كنبة عتيقة ومقعدين مريحين، وبوفيه عتيق أيضًا، وخزانة كُتُب، صُنِعَت من خشب البلوط تكتظ بموسوعات متهالكة ـ كل تلك الأشياء التي اقتنعت أنها ستنال إعجاب أي زائر. بالإضافة إلى أنني قد مضيت صوب كوبري الفرسان فور استئجاري للشقة واشتريت من هناك طاقم شاي موديل الملكة آن، وعددًا من عبوات الشاي الفاخر، وكذا علبة بسكويت كبيرة. لذلك عندما فاجأني أوسبورن ذات صباح بعد عدة أيام استطعت أن أقدم له المرطبات بثقة لم تسمح له ولو لمرة واحدة أن يظن أنه ضيفي الوحيد.
خلال ربع الساعة الأولى تقريبًا، كان أوسبورن يتحرك قَلِقًا في غرفة الصالون، مجاملاً إياي على ترحابي، وهو يتفحص هذا وذاك، مُحَدِقًا عبر النافذة للخارج بانتظام مندهشًا من كل ما يحدث أسفل النافذة بالخارج. في النهاية ارتمى على الكنبة، وأخذنا نتبادل الأخبار ـ أخبارنا وأخبار زملاء الدراسة القدامى. أذكر أننا قضينا وقتًا طويلاً في مناقشة أنشطة اتحادات العمال، قبل أن نستغرق في جدال طويلٍ وممتع حول الفلسفة الألمانية، مكننا من استعراض الجرأة العقلية التي اكتسبناها في جامعاتنا المتخصصة. بعدئذٍ نهض أوسبورن وأخذ يروح ويجيء بخطوات وئيدة منتظمة ثانيةً، مُتحدثًا أثناء ذلك عن خططه العديدة للمستقبل.
"أتعرف أن لديّ رغبة في أبدأ النشر. في الصحف والمجلات، وهكذا. في الحقيقة، أتصور أن أكتب عمودًا بنفسي. في السياسة، أو في القضايا الاجتماعية. هكذا، كما أقول لك، إذا ما قررت ألا أمضي في طريق العمل السياسي بنفسي. أعتقد، يا بانكس. أحقًا، ليس لديك أية فكرة بخصوص ما تريد أن تفعل؟ انظر، كل شيء بالخارج أمامنا" ـ وأشار إلى النافذة ـ "بالتأكيد لديك بعض الخطط."
"أعتقد هذا،" أجبت وأنا أبتسم. "في ذهني شيء أو اثنان. سوف أخبرك به في الوقت المناسب."
"ماذا في جعبتك؟ أخبرني، أفصح! سوف أجعلك تفصح عما بداخلك الآن!" غير أنني لم أكشف له عن شيء، وأعدته ثانيةً إلى حوار طويل حول الفلسفة أو الشعر أو ما شابه. ثم، في الظهيرة تقريبًا، تذكر أوسبورن فجأة موعدًا على الغداء في بيكاديللي وأخذ يلملم متعلقاته. وعندما هم بمغادرتي، التفت عند الباب، قائلاً:
"انظر أيها الفتى العجوز، قصدت أن أقول لك. سأذهب ليلاً لحضور حفل. على شرف ليونارد إيفرست. أحد ملوك المال والصناعة. أنت تعرفه. يقيمه أحد أعمامي. ملاحظة قصيرة إلى حدٍ ما، لكنني أتساءل ما إذا كنت ترغب في الحضور أم لا. إنني جاد جدًا. كنت أود أن أزورك زيارة خاطفة منذ وقتٍ طويل، فقط لم أتعامل أبدًا مع الأمر. سيكون هذا في الكارينجورث."
عندما لم أرد عليه على الفور، تقدم خطوة صوبي وقال:
"لقد فكرت فيك لأنني دائمًا أتذكر. أتذكر كيف كنت دائمًا تسخر من كوني سليل "أسرة عريقة". آه، تقدم! لا تدعي النسيان! لقد كنت معتادًا على استجوابي بفظاظة. من "أسرة عريقة"؟ فقط ماذا يعني هذا، من أسرة عريقة" حسنًا، أظن أن في هذا فرصة جيدة لبانكس القديم أن يفهم معنى "أسرة عريقة" بنفسه." حينئذٍ هز رأسه، وكأنه تذكر شيئًا ما قائلا: "يالطيبتي، لقد كنت شخصًا غاية في الغرابة أيام المدرسة."
اعتقد أنني وافقت على اقتراحه، أخيرًا، بخصوص المساء وقتئذٍ ـ فقد كان مساءً، كما سأوضح، ذا أهمية أكبر بكثير مما كنت أتصور ـ وأظهرت له دون خداع مدى الامتعاض الذي شعرت به من جراء كلماته الأخيرة تلك.
لقد ازداد ضيقي ساعة عُدت للجلوس ثانيةً. فقد خمنت، كما حدث، على الفور ما الذي كان أوسبورن يشير إليه. والحقيقة أنني، أثناء سنوات المدرسة، كنت أسمعها تتردد بشكل متكرر، أوسبورن من "عائلة عريقة". وكانت هذه العبارة تبرز بشكل مطرد عندما يتحدث الناس عنه. وأظن أنني أيضًا استخدمت نفس العبارة عنه كلما كان الأمر يقتضي ذلك. لقد فتنني هذا المفهوم في الواقع، مسألة أنه بطريقةٍ ما غامضة ينتمي إلى عدة مراتب اجتماعية أرقى، حتى على الرغم من أنه لم يكن يتصرف بطريقةٍ مختلفةٍ عنا. مع ذلك، لا أتصور أنني "استجوبته بقسوة" مثلما ادعى. حقيقةً لقد فكرت في الأمر كثيرًا عندما كنت في الرابعة عشر أو الخامسة عشر، لكنني لم أكن أحد الأصدقاء المقربين من أوسبورن أيام المدرسة، فقط طرحت الأمر للمناقشة ذات مرة معه بشكل شخصي على ما أذكر.
ذات صباح خريفي مضبب، كنا معًا نجلس على حائطٍ خفيض خارج حانة ريفية. وقتئذٍ كنا في الفرقة الخامسة. وكنا قد عُينّا مسجلين لأحد سباقات اختراق الضاحية، وكنا في انتظار ظهور العدائين من الضباب عبر حقلٍ مجاور حتى يمكننا توجيههم صوب الاتجاه الصحيح أسفل ممر ضيق موحل. كان لم يزل لدينا متسعٌ من الوقت قبل وصول أيٍ من العدائين، ولذا فقد كنا نتبادل الحديث بتراخٍ. أنا على يقين أنني في هذه المناسبة، قد وجهت له سؤالاً بخصوص أصوله العريقة. إلا أن أوسبورن، والذي رغم امتلائه بالحيوية والمرح، كان يتسم بطبيعة هادئة، حاول أن يغير الموضوع. غير أنني داهمته بإصراري حتى أجابني في النهاية قائلاً:
"لا تبالي بهذا الأمر، يا بانكس. إنه لا يتعدى كونه هراء، ليس ثم من شيء يمكن تفسيره. إن الإنسان يعرف الناس ببساطة. لكل إنسان أبوان، وأخوال وأعمام، وأصدقاء عائلة. لا أعرف ما المربك في هذا." ثم تدارك ما قاله بسرعة، واستدار نحوي وهو يمسك بذراعي، "أنا في غاية الأسف، يا صديقي العزيز، من صفاقتي هذه معك."
إن هذه الزلة السلوكية أغضبت أوسبورن أكثر بكثير مما أغضبتني. حقيقةً، من الممكن أنها ظلت في ذهنه طيلة هذه السنوات، حتى أنه كان بطريقةٍ ما يسترضيني، وهو يطلب مني مرافقته ذلك المساء إلى نادي كارينجروث. على أية حال، كما أقول، لم أكن غاضبًا، في ذلك الصباح الضبابي، من تعليقه الأرعن المعلن. في الواقع، لقد أصبح من المثير للسخط لديّ، أن زملاء الدراسة، على الرغم من ميلهم للمزاح على ما يكتنف أي شخص من سوء طالع فعليًا، فقد كانوا يلاحظون عليّ كآبة شديدة مع أول ذكر لغياب أبويَّ. لكن بالفعل، رغم غرابة هذا، فإن حاجتي لأبوين ـ حقيقةً، لأي من الأقارب وثيقي الصلة بي في إنجلترا فيما عدا خالتي المقيمة في شروبشير ـ أصبح وقتئذٍ لا يسبب لي أي إزعاج. لأنني غالبًا ما كنت أُوَضِّح لرفاقي، أنه في مدرسة داخلية كتلك، درجنا جميعًا على المضي دونما آباء، وأن وضعي ليس متفردًا بشكلٍ عام أيضًا. إضافةً إلى ذلك، حينما كنت أعيد النظر في الأمر، يبدو من المحتمل أن افتتاني بعراقة أصل أوسبورن كان له علاقة باحتياجي الكامل وقتئذٍ لارتباطي بالعالم خارج أسوار مدرسة سانت دانستان. حتى أنني، عندما حان الوقت، أزيف هذا الارتباط لنفسي وأشق طريقي، بلا شك. لكنني ظننت أنه من الممكن أن أتعلم من أوسبورن شيئًا جوهريًا، شيئًا عن كيفية تفعيل مثل هذه الأشياء.
غير أنني عندما قلت، من قبل إن كلمات أوسبورن التي قالها وهو يغادر شقتي قد ضايقتني إلى حدٍ ما، فإنني لم أكن أشير لمسألة إثارة أمر له طيلة تلك السنوات. بل إن ما اعترضت عليه هو حكمه العرضي عليّ بأنني كنت "شخصًا شديد الغرابة أيام المدرسة".
حقيقةً لقد ظل الأمر دائمًا يبدو مُلغزًا أن يقول أوسبورن ذلك الشيء عني ذلك الصباح، طالما أن ذاكرتي تؤكد أنني انغمست في الحياة المدرسية الإنجليزية. حتى أثناء أسابيعي الأولى في مدرسة سانت دانستان، لا أعتقد أنني فعلت أي شيء يسبب لي الارتباك. ففي أول يوم لي، على سبيل المثال، أذكر أنني لاحظت سلوكًا نهجه كثيرٌ من الأولاد أثناء الوقوف أو التحدث ـ حيث يدخلون اليد اليمنى في جيب الصَدْريّة ويحركون الكتف الأيسر لأعلى وأسفل ليؤكدون ثقتهم بملاحظاتهم. أذكر يقينًا أنني استطعت محاكاة هذا السلوك بإتقان بالغ لم يجعل أحدَا من زملائي يلحظ أي شذوذ أو يفكر حتى في السخرية.
بنفس الروح المتجاسرة، استطعت استيعاب الحركات الأخرى، انحرافات طرق التعبير وأنماط التعجب الشائعة بين أقراني، وكذلك الإلمام بالعادات والآداب الأعمق المنتشرة في بيئتي الجديدة. لقد أدركت يقينًا وبسرعة كافية أنه لن يفيدني أن أقحم بانفتاح ـ كما كنت أفعل بصورة روتينية في شنغهاي ـ أفكاري حول الجريمة واكتشافها. إلى حد أنه حتى في أثناء عامي الثالث كانت هناك سلسلة من جرائم السرقة، وكانت المدرسة كلها تستمتع بلعبة المخبر السري، وأحجمت أنا بحذر عن المشاركة تمامًا إلا بصورةٍ ضئيلة. بلا شك، كان هناك آثار من هذه السياسة التي تسببت في إفصاحي عن قدرٍ ضئيل من خططي لأوسبورن في ذلك الصباح الذي دعاني فيه.
لكن، ورغم كل حرصي، يمكنني أن أتذكر حادثتين على الأقل من أيام الدراسة أفترض بهما حتمية، على الأقل بشكل عارض، تنازلي عن حذري بما يكفي وأعرب عن فكرتي بخصوص طموحي. لقد كنت غير قادرٍ حتى وقتئذٍ أن أبرر هذه الأحداث، وأنا لست قريبًا من ممارسة هذا اليوم.
أول هاتين الحادثتين وقعت في عيد ميلادي الرابع عشر. أخذني صديقاي الحميمان وقتئذٍ، روبرت ثورنتون براون وراسيل سانتون إلى أحد محلات الشاي في القرية وقد استمتعنا بالكعك وكيك الكريم. كانت ظهيرة مطيرة في أحد أيام السبت وكانت كل الطاولات الأخرى مشغولة. كان هذا يعني دخول قرويين أغرقهم المطر كل بضع ثوان، يتلفتون، ويلقون بنظرات الازدراء علينا وكأنه يتحتم علينا فورًا أن نخلي طاولتنا من أجلهم. لكن مسز جوردان، صاحبة المكان، كانت دائمًا تخصنا بترحابها. وفي ظهيرة عيد ميلادي تلك، أحسسنا بأن لدينا كل الحق في أن نشغل الطاولة التي اخترناها بجانب النافذة الناتئة المطلة على ميدان القرية. لا أذكر كثيرًا مما كنا نتحدث بشأنه في ذلك اليوم؛ لكن بمجرد أن تناولنا طعامنا، تبادل رفيقيَّ النظرات، ثم انحنى ثورنتون براوني على حقيبته المدرسية وقدم لي علبة ملفوفة بها هدية.
بدأت أفتحها، بسرعة أدركت أن العلبة قد لُفَت في عدة أفراخ من الورق، وأن أصدقائي سيقهقهون في كل مرة أنزع طبقة من منها، فقط ليباغتني الفرخ التالي. كل الإشارات، إذًا، تُقر أنني كنت سأجد شيئًا تافهًا مثيرًا للضحك في نهاية هذا كله. الذي اكتشفته أخيرًا كان جرابًا جلديًا مُجَوّىً
·، وعندما فككت الماسكة الصغيرة أخيرًا ورفعت الغطاء، وجدت عدسة مكبرة.
هي الآن أمامي. مظهرها الخارجي تغير قليلاً مع مرور السنوات؛ كانت في تلك الظهيرة بالفعل كثيرة السفر. أذكر أنني لاحظت أنها، إضافةً إلى حدتها القوية، كانت ثقيلة بصورةٍ مذهلة، وأن مقبضها العاج كان مكسورًا أسفل احد الجانبين. ولم ألاحظ إلا لاحقًا ـ كنت بحاجة إلى عدسة مكبرة أخرى لقراءة الأكليشيه المحفور عليها ـ أنها صُنِعَت في زيورخ عام 1887.
كان رد فعلي الأول تجاه هذه الهدية ينطوي على دهشةٍ هائلة. خطفتها لأعلى، وأثناء إزاحتي كومة الورق التي كانت تغطي سطح الطاولة ـ أشك أنني في اندفاعي المتحمس قد تسببت في تطاير بعض أفراخ الورق إلى الأرض ـ وبدأت على الفور في تجريبها على بعض بقع الزبد التي كانت تلطخ مفرش الطاولة. صرت مستغرقًا للغاية لدرجة أنني كنت ألحظ بشكل باهت فقط أصدقائي وهم يضحكون بهذه الطريقة المبالغ فيها والتي تعبر عن نكتة على شخصٍ ما. عندما نظرت لأعلى، مستعيدًا وعيي أخيرًا، كانا قد سقطا في مغبة صمت غامض. حينئذٍ كان ثورنتون براوني قد أطلق ضحكة مكتومة وفاترة وهو يقول:
"طالما أنك ستصبح رجل بوليس سري، فقد فكرنا أنك ستحتاج هذه الأداة."
عند هذه النقطة، استعدت بسرعة حصافتي وفطنتي وتظاهرت بأن الأمر كله قد كان دعابة مضحكة. لكن عندئذٍ، تخيلت، كانت نوايا صديقيّ يشوبها الارتباك. وخلال ما تبقى من وقتنا في المقهى، لم يحدث أبدًا أن استعدنا حالتنا النفسية السابقة المريحة تمامًا.
كما قلت، أمامي الآن العدسة المكبرة هنا. استخدمتها في تحريات قضية مانارينج؛ استخدمتها مرةً أخرى، مؤخرًا جدًا، أثناء فضيحة ريتشاردسون. ربما لا تكون العدسة المكبرة هي الأداة المحورية كما في الأسطورة الشعبية، لكنها تظل أداة مفيدة لجمع أدلة معينة، وأظن أنني سوف أحمل معي، فيما بعد، هدية عيد ميلادي من روبرت ثورنتون براوني وراسل ستانتون. وأنا أحدق فيها الآن، خطرت ببالي هذه الفكرة: لو كانت نوايا صديقيّ حقيقةً هي مضايقتي، حسنًا إذًا، فالنكتة الآن انقلبت عليهما. لكن المحزن أنني الآن لا أملك الطريقة التي أتيقن بها مما كانا يُضْمِران وقتئذٍ، ولا كيف، في الحقيقة، رغم كل حيطتي، عرفا طموحاتي السرية. ستانتون، الذي كذب فيما يخص سنه لكي يتطوع، قُتِل في المعركة الثالثة من معارك يبريس
·Ypres. ثورنتون براوني، سمعت، مات بالسل منذ عامين. على أية حال، كلاهما تركا مدرسة سانت دانستان في السنة الخامسة وعندما سمعت بأنباء موتهما كان قد مر وقتٌ طويل منذ أن فقدت اتصالي بهما. ما زلت أذكر، رغم هذا، مدى شعوري بخيبة الأمل عندما ترك ثورنتون براوني المدرسة؛ لقد كان الصديق الحقيقي الوحيد لي منذ وصولي إلى إنجلترا، وقد افتقدته كثيرًا خلال الجزء الأخير من وجودي في مدرسة سانت دانستان.
الواقعة الثانية التي خطرت ببالي حدثت بعد ذلك ببضع سنوات ـ في السدس التمهيدي
· ـ غير أن تَذَكُري لها ليس مفصلاً جيدًا. في الواقع، أنا لا أستطيع أن أتذكر جيدًا أي الأشياء حدث قبل الآخر أو بعد الآخر من تلك اللحظة بعينها. ما أذكره هو أنني كنت أمشي باتجاه أحد فصول الدراسة ـ غرفة رقم 15 في الدير القديم ـ حيث كانت الشمس تنسكب في صورة أشعة متناثرة عبر نوافذ الدير الضيقة، كاشفةً الغبار العالق بالهواء. لم يكن الأستاذ قد وصل بعد، لكن لابد وأنني قد تأخرت قليلاً، لأنني أذكر أن زملائي كانوا يجلسون ملتفين حول بعضهم البعض في مجموعات أعلى أسطح الدكك، والنضد، وأفاريز النوافذ. كنت على وشك أن أنضم لواحدة من تلك المجموعات التي كانت تضم خمسة أو ستة أولاد، عندما التفتت وجوههم جميعًا إليّ، على الفور أدركت أنهم قد كانوا يتحدثون عني. حينئذٍ، وقبل أن أتفوه بكلمة، أشار فرد من المجموعة، روبرت برنتورست، ناحيتي وأبدى ملاحظة:
"لكنه قصير إلى حدٍ ما بما لا يجعله يصلح لأن يكون شيرلوك."
قليلٌ منهم ضحكوا، لم يكن ضحكهم فظًا بالتحديد، وهذا، حسبما أتذكر، كل ما في الأمر. أبدًا لم أسمع أي حديث آخر بخصوص طموحاتي في أن أصبح "شيرلوك"، لكن لبعض الوقت بعد ذلك انتابني قلق مزعج بأن سري قد أُفشيَّ وأصبح موضوعًا للمناقشة في غيابي.
بالمصادفة، كانت حاجتي لممارسة الحذر فيما يخص مسألة طموحاتي قد أثرت عليّ قبل وصولي إلى مدرسة سانت دانستان. لأنني قضيت بضعة أسابيع في إنجلترا أتجول في الحديقة العامة بالقرب من بيت خالتي في شروبشير، أقوم، بين أشجار السرخس الكئيبة، بأداء السيناريوهات البوليسية العديدة التي وضعناها أنا وأكيرا معًا في شنغهاي. بالطبع، ولأنني الآن وحدي، اضطررت أن ألعب كل أدواره أيضًا؛ إضافةً إلى أنه، وأنا في غاية الوعي بإمكانية رؤيتي من المنزل، كان يتحتم عليّ أن أمثل هذه الأعمال الدرامية بحركات مُقَيَّدة، وأنا أغمغم بالكلمات همسًا ـ في تناقض واضح مع الطريقة غير الحرة التي كنت أنا وأكيرا نمارس هذا بها.
مع هذا، ثَبَت أن مثل هذه الاحتياطات لم تكن كافية. لأنني ذات صباح سمعت بالصدفة، من غرفتي الصغيرة في العِلّيّة التي خُصِصَت ليّ، خالتي وهي تتحدث مع بعض الأصدقاء في الصالون. كان الانخفاض المفاجئ لأصواتهم هو أول ما أثار فضولي، وعلى الفور وجدت نفسي أتسلل للخارج إلى مُنْبَسَط السلّم وأميل فوق الدرابزون.
"لقد ذهب لساعات،" سمعتها تقول. "هذا ليس صحيًا، لولد في سنه، أن يستغرق في عالمه بهذا الشكل. لابد أن يبدأ التركيز في مستقبله."
"لكن مع ذلك فهذا مُتَوقَع، بالتأكيد،" قال شخصٌ ما. "بعد كل ما حدث له."
"ليس ثم من نتيجة سيجنيها من التقوقع والاكتئاب، مطلقًا،" قالت خالتي. "إنه يلقى أفضل رعاية وتربية، وبهذا الشكل فهو محظوظ. لقد حان الوقت ليعتني بمستقبله. أعني أن يضع نهاية لهذا الاستبطان."
منذ ذلك اليوم وصاعدًا توقفت عن الذهاب للحديقة العامة، وبوجه عام، اتخذت خطوات كي أتجنب أي شيء يبرز "الاستبطان". لكنني وقتئذٍ كنت لم أزل صغيرًا جدًا، ومع حلول الليل، وأنا استلقي في تلك الغرفة العِلّيّة، منصتًا لصرير ألواح الأرضيات أثناء حركة خالتي في البيت لتعبئة ساعات الحائط أو الاعتناء بقططها، كنت غالبًا ما أعيد تمثيل كل تمثيلياتنا البوليسية القديمة، ثانيةً في خيالي، بالضبط بنفس الطريقة التي كنا نفعل بها هذا دائمًا أنا وأكيرا.
لكن لأرجع إلى ذلك النهار الصيفي في شقتي في كينسينجتون حين زارني أوسبورن. لا أود أن أُلمِح إلى أن ملاحظته هذه، التي تقول إنني "شخص غريب"، قد استغرقتن مدة تزيد عن بضع لحظات. حقيقةً، لقد خرجت من ذاتي، بعد أوسبورن بفترة ليست طويلة، وكنت في الحال موجودًا في منتزه سانت جيمس، أتمشى في مزاهر الحديقة، بعد أن أصبحت أكثر شغفًا بالليلة التي تنتظرني.
مع إمعان التفكير ثانيةً في تلك الظهيرة، اكتشفت أنني محق كل الحق في شعوري بقليل من العصبية، وأنها نموذج تام للعجرفة الحمقاء التي حملتني عَبْرَّ أيامي المبكرة الأولى في لندن. بالطبع كنت واعيًا أن هذه الأمسية تحديدًا ستكون على مستوى مختلف تمامًا عن أي شيء حضرته في الجامعة؛ وأنني، إضافةً إلى هذا، ربما اصطدم بنقاط في العادات غير مألوفة ليّ إلى حد بعيد. لكنني أحسست بيقين في أنني سوف، بيقظتي المعتادة، أتغلب على كل هذه الصعوبات، وبشكل عام سأبلى بلاءً حسنا. كانت اهتماماتي وأنا أتجول حول المنتزه ذات ترتيب مختلف تمامًا. عندما تحدث أوسبورن عن المدعوين ذوي "الأصول العريقة"، افترضت على الفور أن من ضمن هؤلاء على الأقل بضع شخصيات من أشهر أفراد البوليس السري في ذلك الوقت. تخيلت، إذًا، أنني قضيت وقتًا كثيرًا في تلك الظهيرة أتدرب فقط على ما سأقول حال تقديمي إلى ماتلوك ستيفنسون، أو ربما حتى بروفيسور تشارلفيل. تدربت مرارًا وتكرارًا على كيفية تقديم تصور موجز ـ باعتدال، ولكن بوقار واثق ـ لطموحاتي؛ وصورت لنفسي أحدهم أو الآخر وهو يخصني برعاية أبوية، ويعرض علي كل أنواع النصائح ويصر على زيارتي له كي يرشدني في المستقبل.
بالطبع، تحول المساء إلى خيبة أمل كبيرة ـ رغم أنه، كما سترى الآن، قد حقق أهمية واضحة لأسباب مختلفة تمامًا. ما لم أكن أعرفه وقتئذٍ أن أفراد البوليس السري، في بلدٍ كهذه، لا يميلون للمشاركة في التجمعات الاجتماعية. ليس هذا بسبب أي نقص في الدعوات؛ فخبرتي الخاصة مؤخرًا ستثبت حقيقة أن الطبقات العليا في المجتمع دائمًا ما تحاول تجنيد واستقطاب المشهورين من أفراد البوليس السري اليوم. المٍسألة بالفعل أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم يميلون للحذر، وغالبًا يفضلون العزلة ويكرسون حياتهم لعملهم ولرغبتهم في التلاقي مع بعضهم البعض ناهيك عن ممارستهم لنفس السلوك مع المجتمع ككل.
كما أقول، لم أدرك هذا تمامًا عندما وصلت إلى نادي كارينجورث في ذلك المساء وحذوت حذو أوسبورن فحييت البواب المُسِن الذي كان يرتدي زيًا رسميًا بابتهاج. لكنني كنت خلال دقائق من دخولنا الغرفة المزدحمة في الطابق الأرضي قد تحررت من الفهم المخطئ. لا أعرف كيف حدث هذا بالضبط ـ لأنني لم أكن أملك من الوقت ما يمكنني من معرفة هوية أيٍ من المدعوين ـ لكن نوعًا من الإيحاء البديهي قد طغى عليّ جعلني أشعر بمنتهى الحمق بسبب لهفتي السابقة. فجأةً بدا من غير المعقول أن أتوقع أن أجد ماتلوك ستيفنسون أو بروفيسور تشارلفيل يخادنون خبراء المال والوزراء الحكوميين ممن أدركت وجودهم حولي. حقيقةً، لقد ضللني هذا التناقض بين الواقع الذي وصلت إليه والواقع الذي أمضيت الظهيرة كلها في تخيله، ورباطة جأشي، التي هجرتني مؤقتًا على الأقل، ولمدة ساعة ونصف أو أكثر، بسبب شعوري بالضيق، لم أستطع أن أحمل نفسي على الابتعاد عن أوسبورن.
أنا واثق أن هذا الإطار العقلي الهائج ذاته يبرر حقيقة أنني كلما أعود بالتفكير الآن في تلك الليلة، تبدو جوانب كثيرة جدًا مبالغ فيها وغير طبيعية إلى حدٍ ما. مثلاً، عندما أحاول الآن أن أستعيد صورة الغرفة، تبدو معتمة بشكل شاذ؛ هكذا برغم المصابيح التي كانت معلقة على الحائط، والشموع التي كانت فوق الطاولات، والثريات التي كانت تتدلى فوق رؤوسنا ـ لم يكن لأي منها أدنى أثر على الظلام المنتشر حولنا. السجادة كانت سميكة جدًا، لذلك كان الواحد منا مضطر لجر قدميه كي يتحرك في كل أنحاء الغرفة وفي كل مكان حولنا رجال يعتري شعورهم المشيب يرتدون معاطف سوداء يجرون أقدامهم فوق السجادة، حتى أن بعضهم كان يدفع بكتفيه للأمام وكأنهم يمشون في مغبة عاصفة هوجاء. الخدم، أيضًا، بصوانيهم الفضية، يميلون إلى المحادثات في زوايا معينة. نادرًا ما كنت ترى سيدات بين الحضور، وهؤلاء اللاتي رأيتهن ظهرن في حالة محو للذات وبعيدات عن الأضواء، وعلى الفور تقريبًا كن يختفين عن مرمى البصر خلف غابة من حُلل السهرة السوداء.
كما أقول، أنا متأكد أن هذه الانطباعات ليست دقيقة، لكن هكذا ظلت الليلة باقية في عقلي. أتذكر وقفتي هناك متجمدًا حرجا، وأنا أشرب من كوبي مرةً بعد مرة، بينما كان أوسبورن يدردش بود مع ضيف بعد آخر، معظمهم كانوا أكبر منا بما يزيد عن ثلاثين عامًا. حاولت مرة أو اثنتين أن أشترك في الحديث، لكن صوتي كانت تشوبه نبرة طفولية بصورةٍ منافية للذوق السليم، وعلى أية حال، كانت معظم الحوارات تدور حول ناس وقضايا لا أعرف شيئًا عنها.
بعد فترة، بدأ الغضب يزحف عليّ ـ على نفسي، على أوسبورن، وعلى كل ما يجري. شعرت بأنني محق كل الحق في ازدراء من حولي من الناس؛ وأنهم إلى حدٍ كبير موصومون بالأنانية والجشع، وتعوزهم القيم أو الإحساس بالواجب العام. في النهاية، وبدافع قوي من غضبي، استطعت أن أنزع نفسي بعيدًا عن أوسبورن وأتحرك بعيدًا في الظلام إلى جزء آخر من الغرفة.
وصلت إلى منطقة مضاءة بواسطة بقعة ضوء تسقط من مصباح حائط. كانت جموع الناس أقل هنا، ولاحظت وجود رجل أشيب الشعر في حوالي السبعين من عمره وكان يدخن وظهره للغرفة. اقتضى الأمر لحظة مني لأدرك أنه كان يحدق في مرآة، وحينئذٍ لاحظ أنني قد كنت أنظر إليه. كنت على وشك أن أبتعد مسرعًا، عندما قال، دون أن يستدير:
"هل أنت مستمتع؟"
"أوه نعم،" قلت وأنا أطلق ضحكة خفيفة. "شكرًا لك. نعم، مناسبة رائعة."
"لكنك تائه إلى حدٍ ما، هه؟"
ترددت، ثم أطلقت ضحكة أخرى. "ربما قليلاً. نعم، سيدي."
استدار الرجل ذو الشعر الأشيب وتفحصني بعناية. ثم قال: "لو وددت، سأخبرك بهوية بعض هؤلاء الناس. ثم لو أن هناك من تريد التحدث إليه على وجه التحديد، فسوف آخذك إليه وأقدمك له. ماذا تقول في هذا؟"
"هذا منتهى العطف منك. منتهى العطف في الحقيقة."
"حسنًا."
اقترب مني خطوة ومسح بعينيه المرئي لنا من الغرفة. ثم مال للأمام عليّ، وبدأ يشير إلى هذه الشخصية وتلك. حتى حينما يكون الاسم من النوع الوصفي، كان يتذكر أن يضيف لمعرفتي "خبير المال"، "المؤلف الموسيقي"، أو أي شيء أيًا كان. مع الشخصيات الأقل شهرة، كان يلخص ببعض التفصيل سيرة حياة الشخصية وسبب أهميتها. أعتقد أنه كان في مغبة إخباري عن أحد رجال الدين وكان يقف على مقربةٍ منّا، عندما توقف فجأةً وقال:
"آه. أرى أن انتباهك قد انجذب بعيدًا."
"أنا في غاية الأسف...."
"وهو كذلك. مع هذا، طبيعي جدًا. من رفيق شاب مثلك."
"أؤكد لك، يا سيدي..."
"لست بحاجة للاعتذار." أطلق ضحكة ووكز ذراعي برفق. "تراها رائعة، هه؟"
لم أكن أعرف بالضبط بماذا أرد. ولم أستطع أن أنكر أن انتباهي قد انحرف بسبب المرأة الشابة التي كانت تقف على بعد عدة ياردات إلى يسارنا، وكانت مستغرقة وقتئذٍ في حوار مع رجلين في منتصف العمر. لكن عندما حدث هذا، في تلك المرة الأولى التي رأيتها فيها، لم أفكر فيها على أنها رائعة مطلقًا. من الممكن حتى أنني أحسست إلى حدٍ ما، هناك وقتئذٍ، مع أول وقوع لعينيّ عليها، أن تلك المميزات التي كنت قد اكتشفتها هي جزءٌ منها بشكل هام. الذي رأيته كان امرأة شابة ضئيلة قزمية القامة بشعر قاتم يطاول كتفيها. حتى بالرغم من أنها كانت، في تلك اللحظة، تتمنى بوضوح أن تفتن الرجلين اللذين كانت تتحدث إليهما، فقد رأيت شيئًا ما في ابتسامتها يجعلها في لحظة ربما تستحيل إلى سخرية. انحناءة خفيفة حول كتفيها، مثل تلك التي تسم الطيور الجارحة، تجعلك تفترض في وقفتها شيئًا من المكر. فوق كل هذا، لاحظت خاصية معينة حول عينيها ـ نوعا من القسوة، شيء جشع بطريقة حقيرة ـ أرى الآن، وأنا أستعيد الأحداث الماضية وأتأملها، أنها فاقت ما سواها وجعلني أحدق فيها بهذا الافتتان في تلك الليلة.
عندئذٍ، وبينما كنا لم نزل نرمقها، نظرت باتجاهنا، مدركةً رفيقي، ألقت إليه بابتسامة خاطفة وفاترة. حياها الرجل أشيب الشعر بانحناءة محترمة من رأسه.
"سيدة شابة فاتنة،" غمغم، وقد بدأ يشق بي الطريق. "ولكن لا معنى أن يضيع رجلٌ مثلك وقته في مطاردتها. لا أقصد أن أكون عدوانيًا، فأنت تبدو من النوع المهذب والمحترم جدًا. لكن تعرف، هذه ميس هيمنجس. ميس ساره هيمنجس."
لم يكن للاسم أي معنىً عندي. لكن لما كان مرشدي من البداية حي الضمير للغاية في إمدادي بخلفيات هؤلاء الذين أشار عليهم، فقد نطق اسم هذه المرأة وهو يتوقع بوضوح مني أن أكون على دراية به. ولذا لم يكن مني سوى أن أومأت وقلت:
"أوه نعم. إذن فهذه ميس هيمنجس."
توقف الرجل ثانيةً ومسح الغرفة من زاوية رؤيتنا الجديدة.
"الآن دعني أرى. أنا أدرك أنك تبحث عن شخص يعطيك دفعة في مستقبلك. صح؟ لا تقلق. لقد لعبت نفس اللعبة كثيرًا في شبابي. الآن دعني أعرف. من لك هنا؟" ثم استدار بغتةً نحوي وسأل: "الآن ماذا قلت ثانيةً بخصوص ما تريد أن تفعله في حياتك؟"
بالطبع، لم أكن حتى تلك اللحظة قد أخبرته بأي شيء. ولكن الآن بعد قليل من التردد، أجبته ببساطة:
"بوليس سري، يا سيدي."
"بوليس سري؟ هممم." واصل النظر بتفحص في كل أنحاء الغرفة. "تقصد...رجل شرطة؟"
"مستشار خاص بشكل أكثر دقة."
أومأ. "بطبيعة الحال، بطبيعة الحال." وواصل التدخين من سيجاره، وهو يمعن التفكير. ثم قال: "لست مهتمًا بالمتاحف، إن أمكن؟ الرجل الذي هناك، أعرفه لسنوات. متاحف، جماجم، رفات الجثث، أشياء من هذا القبيل. لا يهمك؟ لم أعتقد هذا." واصل النظر بتفحص في أنحاء الغرفة، أحيانًا يومئ برقبته لينظر إلي شخصٍ ما. "بالطبع،" أخيرًا قال، "كثير من الشباب يحلمون أن يصبحوا أفراد في البوليس السري. بإمكاني أن أقول أنني حلمت بهذا ذات مرة، في لحظة ما كانت أكثر خيالية. الواحد يشعر بأنه مثاليٌ في سنك. ويتوق لأن يصبح أعظم رجل بوليس سري في عصره. ليقتلع وحده كل شرور العالم. هذا جدير بالثناء. لكن في الحقيقة، يا صغيري، إن هذا بالفعل أيضًا كأن، لِنَقُل، يكون لديك بضعة أوتار أخرى في قوسك. لأنك بعد عام أو اثنين من الآن ـ لا أقصد أي هجوم أو عداء ـ لكن قريبًا جدًا ستتناول الأمور بطريقة مختلفة تمامًا. هل أنت مهتم بالأثاث؟ أنا أسألك لأنك من يقف أمامنا هناك هو هاميش روبيرتسون فعلاً."
"مع احترامي لكل ما قلته، يا سيدي. فالطموح الذي صرحت به لك توًا ليس نزوة هذه اللحظة. إنه دعوة ومهنة أحسست بها طيلة حياتي."
"طيلة حياتك؟ لكن كم عمرك؟ واحد وعشرين؟ اثنين وعشرين؟ حسنًا، أظن أنه لا ينبغي ألا أشجعك. مع ذلك، إذا لم يكن شبابنا سيتبنون ميولاً مثالية فمن سيفعل هذا؟ ولا شك، يا بني، أنك تعتقد أن عالم اليوم أكثر شرًا من العالم قبل ثلاثين عامًا مضت، أليس كذلك؟ وأن الحضارة على حافة الهاوية وكل هذا؟"
"في واقع الأمر، يا سيدي،" قلت باقتضاب، "أعتقد أن الأمر هكذا."
"أتذكر عندما فكرت أنا أيضًا في هذا." فجأةً تبدلت سخريته بنبرة أكثر تعاطفًا، أظن حتى أنني رأيت عينيه تمتلئ بالدموع. "لماذا هكذا، هل لديك افتراض، يا بني؟ هل أصبح العالم فعلاً أكثر شرًا؟ هل يتفسخ الإنسان وينحط بوصفه نوعًا بيولوجيًا؟"
"لا أعرف شيئًا عن هذا، يا سيدي،" أجبت ولكن هذه المرة بلطف أكثر. "كل ما أستطيع قوله هو، من وجهة نظر المراقب الموضوعي، أن المجرم الحديث قد أصبح أكثر مهارة. لقد أصبح أكثر طموحًا، أكثر جرأة، والعلم قد وضع نظامًا كاملاً من الأدوات المعقدة تحت تصرفه."
"صحيح. وبدون رجال موهوبين مثلك بجانبنا، فالمستقبل يبدو قاتمًا، أليس كذلك؟" هز رأسه بأسى. "ربما لديك شيء هناك. شيء سهل جدًا بما لا يمكِّن رجلاً كبيرًا من السخرية. ربما تكون على حق، يا بني. ربما نكون قد سمحنا للأمور بالانفلات إلى حدٍ متطرف جدًا.آه."
أحنى الرجل أشيب الشعر رأسه ثانيةً عند مرور سارة هيمنجس بنا. كانت تتحرك بين المدعوين برشاقةٍ مترفعة، ونظرتها تنتقل من اليمين إلى اليسار بحثًا ـ هكذا بدت ليّ ـ عن شخصٍ ما. بدت جديرة بحضورها. عند إدراكها لرفيقي، ألقت إليه بنفس الابتسامة السريعة كما فعلت من قبل، لكنها لم تتوقف عن تقدمها في طريقها. وقعت نظرتها عليّ، لمدة دقيقة واحدة فقط، لكنها على الفور ـ وقبل أن ألقي إليها بابتسامة ـ كانت قد طردتني من عقلها وشقت طريقها صوب شخص ما كانت قد حددت موقعه في الجانب الآخر من الغرفة.
متأخرًا في تلك الليلة، عندما جلست أنا وأوسبورن معًا في سيارة أجرة أسرعت عائدةً بنا إلى كينسينجتون، حاولت أن أكتشف شيئًا أعمق فيما يتعلق بسارة هيمنجس. أوسبورن، على الرغم من كل تظاهره بأن الليلة كانت مملة وثقيلة الظل، كان مستمتعًا، ولديه شغف لسرد الحوارات العديدة التي دخل فيها مع شخصيات ذات نفوذ وسلطة؛ وبالتفصيل. وبالتالي لم يكن من السهل استقطابه لموضوع ميس هيمنجس دون أن أبدو شغوفًا جدًا.
مع هذا، استطعت أن أحمله أخيرًا على أن يقول:
"ميس هيمنحس؟ أوه نعم، هي. كانت مخطوبة لهيريوت لويس. تعرف، الأخ الكمساري. ثم مضى وقام بقيادة كونشرتو شوبيرت في قاعة آلبرت الخريف الماضي. هل تتذكر هذه الكارثة؟"
عندما أعلنت عن جهلي بها، واصل أوسبورن كلامه:
"لم يقذفونه فعلاً بالكراسي، لكن أستطيع أن أقول إنهم كانوا على وشك أن يفعلوا هذا لو لم تكن الكراسي مثبتة في الأرض. صحفي التايمز وصف العرض بأنه "محاكاة زائفة ومضحكة تمامًا". أو هل قال بأنه، "انتهاك وتدنيس؟ على أية حال، لم يكترث كثيرًا به."
"وميس هيمنجس..."
"أسقطته مثل قطعة بطاطا ساخنة. وألقت إليه بخاتم الخطوبة، جهارًا. ومنذ ذلك الحين وهي تترك بينها وبينه مسافة شاسعة."
"كل هذا بسبب هذا الحفل الموسيقي؟"
"حسنًا، لقد أجمعت كل الآراء على أنه كان في منتهى البشاعة. وأحدث اضطرابًا هائلا. أعني فسخها للخطوبة. لكن كم كانا مصدرًا للإزعاج الليلة، يا بانكس. هل تعتقد لو أننا في تلك السن، كنا سنتصرف هكذا؟"
***
أثناء تلك السنة الأولى بعد كمبريدج، ومن خلال صداقتي بأوسبورن على وجه العموم، وجدت نفسي أحضر مناسبات اجتماعية ضخمة أخرى على أساس اعتيادي بشكل ملائم. عندما أعود وأمعن التفكير في تلك الفترة من حياتي، أشعر بالدهشة لأنها كانت فترة من الطيش والعبث الغريب والمتفرد. كان هناك حفلات عشاء، وغداء، وحفلات كوكتيل تقام عادةً في شقق في كل أنحاء بلومسبري وهولبورن. كنت قد قررت أن ألقي بالإحراج الذي ظهر في سلوكي في ليلة كارينجورث خلفي، وأصبحت سلوكياتي في هذه الليالي أكثر ثقة واستقرارا. حقيقةً، من المنطقي أن أقول أنني أصبحت أحتل مكانًا داخل أرقى "تجمعات" لندن لفترة.
لم تكن ميس هيمنجس جزءًا من المجموعة التي تخصني، لكنني وجدت أنني كلما ذكرت اسمها للأصدقاء، كانوا يعرفون عنها. إضافةً إلى أنني كنت أراها في حفلة أو أخرى، وغالبًا في قاعات تناول الشاي في الفنادق الكبرى. على أية حال، فبطريقةٍ ما أو بأخرى استطعت القيام بتجميع كم معقول من المعلومات المتعلقة بسيرتها الشخصية في مجتمع لندن.
كم هو غريب أن أتذكر وقتًا كانت فيه هذه الانطباعات الثانوية المبهمة هي كل ما كنت أعرفه عنها! لم أستهلك وقتًا طويلاً لأبرهن أن هناك كثيرون لا ينظرون إليها باستحسان. حتى قبل مسألة فسخ خطبتها على آنتوني هيريوت لويس، بدا أنها كونت عداوات بسبب ما أسماه الكثيرون بـ "صراحتها". أصدقاء هيريوت لويس ـ بحقيقته الموضوعية التي، للإنصاف، لا يمكن أن تتساوى مع هذه النقطة ـ وصفوا إلى أي مدى كانت مطاردتها للمُحَصِل قاسية وعنيفة. آخرون اتهموها بالتلاعب بأصدقاء هيريوت لويس كي تتقرب منه. تخليها التالي عن المُحَصِل وقطع صلتها به، بعد كل جهودها المضنية، كان ملغزًا من وجهة نظر البعض، آخرون تعاملوا مع هذا ببساطة على أنه دليل دامغ على دوافعها الكلبية. على الجانب الآخر، صادفت عددًا كبيرًا من الناس تحدثوا بصورة لائقة إلى حدٍ ما عن ميس هيمنجس. كثيرًا ما وُصِفَت بأنها "ذكية"، "جذابة" و "معقدة". النساء على وجه التحدي دافعن عن حقها في فسخ خطبتها، أيًا كانت أسبابها. حتى من دافعوا عنها، مع هذا، اتفقوا على أنها "نفاجة
· أو متأبهة بشعة من نوع جديد"؛ ولا تنظر بعين الاعتبار لشخص جدير بالاحترام ما لم يكن لاسمه دويّ وشهرة. ولابد أن أقول، بملاحظتي لها عن بُعد كما فعلت خلال تلك السنة، صادفت قليلين يعترضون على هذه الادعاءات, حقيقةً، أحيانًا ما يداخلني انطباع بأنها غير قادرة على تنفس أي شيء بصورة ملائمة غير محاصرة الشخصيات اللامعة اجتماعيًا. ذات مرة أصبحت على علاقة بهنري كوين، المحامي في المحاكم العُليا، فقط لتبعد نفسها ثانيةً بعد فشلها في واقعة تشارلز براوننج. ثم بعد ذلك كانت الشائعات الخاصة بعلاقة الصداقة المتنامية بينها وبين جيمس بيكون، الذي كان وقتئذٍ مفوضًا حكوميًا واعدًا. على أية حال، حينئذٍ أصبح واضحًا بجلاء ليّ أن ما كان يقصده الرجل أشيب الشعر، عندما أعلن عن عدم وجود فائدة تعود على رجل مثلي من مطاردتها، ليس صحيحًا تمامًا. بالطبع، لم أكن في الحقيقة أفهم كلماته وقتئذٍ. الآن، ولأنني فعلت ذلك، خلال تلك السنة وجدت نفسي أقتفي أثر ميس همينجس وأتتبع أنشطتها باهتمام بالغ. رغم هذا كله، فأنا بالفعل لم أتحدث إليها حتى حدث هذا ذات ظهيرة بعد عامين تقريبًا من أول مرة رأيتها في نادي كارينجورث.
***
كنت أتناول الشاي في فندق وولدروف مع أحد معارفي عندما استُدعيَّ لأمرٍ ما بغتةً. وهناك كنت أجلس وحدي على أرضية الـ Palm Court، مستغرقًا في الكعكات والمربى، عندما لمحت ميس هيمنجس، تجلس وحدها أيضًا، على إحدى الطاولات الموجودة في الشرفة. كما قلت، كانت هذه هي المرة الأولي على الإطلاق التي أراها في مثل هذه الأماكن، لكن في تلك الظهيرة كانت الأمور مختلفة. لأن هذا كان بالكاد بعد شهر من قضية المانرينج، وكنت لم أزل على ما يشبه السحابة. بالتحديد، شهدت تلك الفترة، التي تلت أول انتصاراتي العامة، حالة من العنف والاندفاع: فجأةً انفتحت أبواب جديدة كثيرة أمامي؛ وأُمْطِرتُ بالدعوات من مصادر جديدة تمامًا؛ وهؤلاء الذين كانوا لا ينظرون إليَّ بأكثر من مجرد الرضا تعجبوا بحماس شديد عند دخولي أي غرفة. لا عجب أنني فقدت بعضًا من علاقاتي.
على أية حال، في تلك الظهيرة في وولدروف، وجدت نفسي أنهض وأشق طريقي صوب الشرفة. لست واثقًا فيما كنت أنتظر أو أتوقع. ثانيةً كان من صميم اعتدادي بنفسي وقتئذٍ أنني لم أتوقف عن الاعتقاد في أن ميس هيمنجس ستكون حقًا في منتهى السعادة حال تعرفها عليّ. ربما ومض بعقلي شكٌ وأنا أخطو مارًا بعازف البيانو لأصل إلى الطاولة التي كانت تجلس إليها مستغرقةً في قراءة كتاب. لكنني أذكر شعوري بالرضا إلى حدٍ ما بسبب الطرقة التي خرج بها صوتي، فقد كان حضريًا ومازحًا، وأنا أقول:
"معذرةً، لكني فكرت في أنه قد حان الوقت لأقدم لك نفسي. فبيننا العديد من الأصدقاء المشتركين. أنا كريستوفر بانكس."
استطعت أن أنطق اسمي بتباهٍ، لكن بالفعل كانت ثقتي، وقتئذٍ، قد بدأت في التلاشي. لأن ميس هيمنجس كانت ترمقني من أسفل بنظرة فاترة وفاحصة. وأثناء الصمت الذي غلف اللحظة التالية، ألقت نظرة خاطفة على كتابها، وكأنه قد أطلق آهة شكوى. أخيرًا، وبصوت مشحونٍ بالارتباك، قالت:
"أوه نعم؟ كيف حالك؟"
"قضية المانرينج،" قلت، بحمق. "لابد وأنك قد قرأت عنها."
"نعم. أنت حققت فيها."
تلك كانت هي الجملة التي أخرجتني، في واقع الأمر، عن اتزاني تمامًا. لأنها قد تكلمت دون أي إشارة من أي نوع على التحقق أو الإدراك؛ لقد كانت جملة تقريرية سطحية تعني ببساطة أنها كانت مدركة لشخصيتي طوال الوقت، وأنها كانت لم تزل بعيدة تمامًا عن إدراك السبب الذي لأجله أقف إلى جوار طاولتها. بغتةً شعرت أن الابتهاج الطائش الذي شهدته الأسابيع الماضية يتبخر. وأعتقد أنه حينئذٍ، عندما أطلقت ضحكة متعصبة، خطر ببالي أن قضية المانرينج، رغم الألمعية البديهية لتحرياتي، ورغم مديح الأصدقاء، إلى حدٍ ما لم تحقق أهمية كبيرة في العالم الأوسع حسبما ظننت.
من الممكن جدًا أن نكون قد تبادلنا تحية لطيفة للغاية قبل أن أبدأ في التراجع إلى طاولتي. واليوم يبدو لي أن ميس هيمنجس كانت أكثر من محقة حين أجابت بهذه الطريقة؛ كم كان سخيفًا أن أتخيل أن شيئًا ما مثل قضية المانرينج سيكون كافيًا لترك انطباعٍ قوي عليها! لكنني أذكر، لحظة عُدت للجلوس ثانيةً، انتابني شعورٌ بالغضب والاكتئاب. والفكرة التي سيطرت عليّ هي أنني لم أتصرف فقط بحماقة مع ميس هيمنجس، لكنني ربما قد كنت أفعل هذا باستمرار طوال الشهر السابق؛ وأن أصدقائي، برغم كل تهانيهم لي، قد كانوا يسخرون منيّ.
مع اليوم التالي، كنت قد قبلت فكرة أنني جديرٌ تمامًا باللكمة التي تلقيتها. لكن ما حدث في فندق وولدروف فجر داخلي مشاعر الاستياء والامتعاض تجاه ميس هيمنجس، وأبدًا لم أتخلص منها تمامًا ـ والتي أسهمت بلا شك في الأحداث السيئة ليلة أمس. مع هذا فقد حاولت في نفس الوقت أن أنظر للحدث ككل على أنه من قبيل العناية الإلهية. فهذا الحدث، على أية حال، جعلني أدرك مدى سهولة أن ينصرف المرء عن أهم الغايات التي علقت في ذهنه. فنيتي كانت مواجهة الشر ـ الشر الماكر الغادر، على وجه التحديد ـ ومثل هذا لا علاقة له بتودد الشهرة في الدوائر الاجتماعية. بعدئذٍ بدأت أقلص وجودي الاجتماعي إلى أبعد حد وصرت أكثر استغراقًا في عملي. قمت بدراسة قضايا شهيرة من الماضي، والتهمت مناطق معرفية جديدة ربما تعود عليّ بالفائدة ذات يوم. في هذه الفترة، أيضًا، بدأت أدقق النظر في سير حياة العديد من أفراد البوليس السري ممن أضحت أسماؤهم كبيرة، ووجدت أنه بإمكاني أن أتبين خطًا بين أنماط الشهرة التي انبنت على إنجاز أجوف، وتلك التي نتجت بالأساس من مكانة داخل وضعية مؤثرة؛ وأدركت أن هناك طريقًا حقيقيًا وزائفًا يكتسب عبره رجل البوليس السري شهرته. باختصار، بقدر ما قد أثارتني عروض الصداقة التي امتدت إليّ ما بعد قضية المانرينج، فقد، بعد الصدام غير المتوقع في فندق وولدروف، تذكرت ثانيةً المثال الذي أرساه والديَّ، وخلصت إلى عدم السماح لنفسي بالانشغال بالأمور التافهة.
· معالجٌ أو مغيرٌ التركيب أو الشكل بالتعريض للعوامل الجوية (المترجم)
· مدينة سوق فلمنكية صغيرة، خارج الحدود الفرنسية، تشبه في كل شيء العديد مِنْ المدن البلجيكية، وظلت كذلك حتى 1914، اندلاع الحرب العالمية الأولى، لكنها منذئذٍ أصبحت مسرحًا لأبشع المعارك التي سجلت مقتل عددٍ مروع من الناس قُدِر بنحو 500,000 قتيلاً في منطقةِ لا تتجاوز مساحتها 25 كيلومترًاِ مربّعِا. بعد الحربِ أصبحَت مسرحًا لأحد أهم الاحتفالات التذكارية الأوروبيةِ (المترجم).
· حلقة دراسية أو عام دراسي (المترجم).
· النفاج: المقلد لمن يعتبرهم أرقى منه، أو المعجب بهم بتملق (المترجم).

الاثنين، 25 أغسطس 2008

بهاء جاهين يكتب عن (مدن فارهة للنسيان)


حين تتحول قصيدة النثر إلى سيمفونية
بهاء جاهين

الشعر فى معظم الاحيان أحادى كصوت الكمان، والشاعر الذى يجد رؤيته مركبة ومعقدة كثيراً ما يلجأ إلى المسرح، أو يعمد إلى استضافة بعض تقنيات المسرح - بالذات الحوار وتعدد الأصوات - فى قصيدته। لكن من النادر أن يلجأ شاعر إلى استلهام فن غير لغوى فى بناء قصيدته। وهذا ما فعله طاهر البربرى فى ديوانه «مدن فارهة للنسيان» (كتابات جديدة، 2001) حين حاول إخراج قصيدة طويلة مركبة الرؤية فى خمس حركات كالسيمفونية وأن يجعل كل حركة ذات مذاق موسيقى وموقف معنوى خاص يميزها عما قبلها أو بعدها.
ولكن قبل أن نرى معاً لماذا اختار طاهر البربرى الشكل السيمفونى لقصيدته الديوان وإلى أى حد جاءت الحركات الخمس مبررة لاختياره هذا ومبرزة وجاهته الفنية، دعونا أولاً نتعرف على الشاعر. طاهر البربرى شاعر ومترجم مصرى من مواليد شبين الكوم 1970. درس الأدب الانجليزى بكلية الآداب جامعة المنوفية، وعمل مدرساً للغة الانجليزية بمركز اللغات والترجمة بالأكاديمية المصرية للفنون، وله ديوان سبق الذى نحن بصدده، هو توقيعات على جسد المساء (1997).
وترجم إلى الانجليزية ديوان الشاعر رفعت سلام «إنها تومئ لى» (1994) وإلى العربية «أرض المساء» (مختارات من شعر د. هـ. لورانس) ورواية «إله الأشياء الصغيرة» (الفائزة بجائزة بوكر 1997).
إذن فهو شاعر مطلع على الادب العالمى، وبلغة كتابته فى كثير من الأحيان. بل وأعتقد من قراءتى لهذه القصيدة الديوان «مدن فارهة للنسيان» أن اختياره للشكل السيمفونى لم يكن اعتباطاً ولم يكن مقحماً على التجربة الشعرية بل يعكس محاكاة واعية لهذا الفن الموسيقى لا تتأتى إلا لكاتب عاشرته أذنه ووجدانه طويلاً. فنحن إذا تأملنا بداية القصيدة لوجدنا فيها النبرة العالية لمفتتح الحركة الاولى للسيمفونية خاصة عند الرومانسيين وعلى رأسهم بيتهوفن :
كأننى أبعث حياً
كأنما مدن فارهة للنسيان
على نهديك احتضنتنى
لكأننى أسمع افتتاحية سيمفونية بيتهوفن الخامسة، ولعلك إذا كنت من محبى ومعاشرى الموسيقى الكلاسيكية تسمعها معى الآن. ولكن بداية عالية النبرة لا تصلح فى ذاتها تبريراً لاختيار شكل موسيقى واستلهامه فى بناء قصيدة.
فهل جاء تقسيم القصيدة إلى خمس حركات مبتسراً ومفروضاً عليها أم استطاع الشاعر فى القصيدة ذاتها أن يبرره فنياً ؟ أو بعبارة أخرى، هل جاءت كل حركة استطراداً لما قبلها أم تميزت شكلاً ومضموناً كما تتميز كل حركة فى بناء السيمفونية عن باقى الحركات ؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال من خلال الديوان نفسه يحسن بنا أن نتأمل موضوع القصيدة. القصيدة باختصار تلخيص لتجربة حب. ولكنها ليست تجربة حب بسيطة بل مركبة : فهى ليست مجرد انجذاب لامرأة تطور إلى ارتباط عاطفى وجنسى بها، بل هى هروب من هزيمة العاشق أمام واقع يرفضه إلى احضان امرأة جعلها المرفأ والعقيدة والوطن و«مدناً فارهة للنسيان» :
هل قلت لكم :
إننى هرم
وإننى اصطدت هذه المرأة
بآخر شهقة لليسارى
قبيل القصف بقليل ؟
الحركة الثالثة - ص 53
وهى قصيدة حب مركبة أيضاً لأنها ليست تعبيراً أحادياً عن امتنان بالمعشوق أو سأمه أو اكتشاف لخدعة الحب بل هى سيرة كاملة لتجربة عاطفية غير خالصة لوجه الحب تخبطت بين كل حالات الفتنة والملال والشك وتأثرت طوال الوقت بواقع مخيف هرب منه الشاعر لكنه يطارده فى أحضان الحبيبة. فكيف صاغ الشاعر تقلبات هذا الحب وأحواله ومطاردة العالم الوحشى له فى الحركات الخمس لبنائه السيمفونى ؟
الحركة الأولى :
تعكس بداية القصيدة أمل الشاعر فى أن ينجح هروبه إلى أحضان المرأة التى اختارها محبوبة فى إنقاذه من صياغة الوجودى وهزيمته السياسية :
نحن على موعد
فافرحوا
لأنسخ بجوار جسدها، جسدى
لأستر عورتى بالود
وأفسد : هاتان العينان قاسيتان . لماذا ؟
الحبيبة رفرفت على طرف الوسادة. متى ؟
وكيف التقطتنى، بقبلة، من مخيم العناء
( ص - 10)
والشاعر يجعلنا نفهم منذ البداية أننا لسنا بصدد قصيدة حب بسيطة، بل ربما هى ليست قصيدة حب على الإطلاق؛ ربما كان ظاهرها الحب وباطنها البطش، ظاهرها امرأة وباطنها وطن :
ما أبرد الشارع
حين تدهمنى نظرة المخبر
المرابط فى معطفه الرث
ما أدفأ يدى
حين تنام تحت إبطيك ،
تنام !
( ص - 17)
والشاعر فى هذه الحركة الأولى يتنازعه الأمل والخوف : الأمل فى انتصار حبهما على واقع جهم متوحش شهد هزائم على كل المستويات، والخوف من أن يقتل الوحش الجميلة، أو يقتل الواقع الهاربين منه إلى عش من دفء القلب. فبينما يسجع الفلوت هامساً:
ليست شتوتنا الأخيرة
سننزح سوياً الماء الذى داهمنا فجراً
ليست شتوتنا الأخيرة
غداً سنفتح بابنا للأصدقاء
ستقدمين الشاى
بجلال يفضحه التثاؤب
سيغادرون حالاً
لأعود إلى خلوتك
وأنسل خلسة بين نقوش الجلباب
(ص 14)
بينما يهمس الفلوت بهذا، يعصف البيانو محتجاً فى نهاية الحركة الأولى :
يا الرومانسية التى ارتضت
رجلاً باهظ الجنون
أى خرافه
سأسربها، لأحيل الضجيج الذى يهاجسك
إلى موسيقى ؟
ثم أى رجل ستحاصرين
لو أن الرصاصة التى طاشت بيننا
سكنت عنقى ؟
(ص 27)
الحركة الثانية :
إذن هو حب تحت الرصاص. وإذن هو شعر درامى - وإن لم يلجأ للحوار - لأن صوت الشاعر فيه يتبدل بتبدل أحوال الخوف والرجاء والعشق والملال. وهذا فى حد ذاته مبرر لاختيار صيغة سيمفونية :
لأننا لسنا بإزاء ناى تحت جميزه أو كمان فى حجرة مغلقة، بل يهدر الشاعر أحياناً كالبيانو ويدق ساعات كالفلوت. ولكن كل هذا لا يكفى ليكون هذا الديوان / القصيدة سيمفونية بحق. إذ لابد كما اتفقنا أن تختلف كل حركة من حركات قصيدة السيمفونية الخمس عما سواها. فهل جاءت الحركة الثانية مختلفة عن التى سبقتها أم كانت مجرد استطراد لها ؟
فى الحركة الأولى كان الحب طازجاً، وكان الشعر يعكس استقبال الشاعر له فى فرحة يكاد يفسدها الخوف، وأمل قلق لا يستقر كعصفور على غصن شجرة تحت الرصاص. أما هنا فقد هدأ الحب بما يكفى للتأمل.. وللاستسلام أيضاً لليأس من جدوى محاولة بناء عش فى شجرة يداهمها الرصاص :
أتذكرين القبلة الأولى ؟
كنت أشتهى حنيناً أكبر
أبهذه السهولة
تسيل أيامنا
ما بين غرق فى شهوة القيظ
وبكاء يافع بالندم ؟
............لو كنا دراويش
لكان الهواء ممكناً
.............
لكننا كنا نتقافز
خشية الموت
عاريين حتى
من النخلة التى
إلى جوارها
ولدنا
)ص ص- 32 : 35) )
هذا التأمل لا يتأتى إلا حين يبرد الحب. والحركة الثانية برمتها هى الحركة المضادة للبندول فى ردة فعل لتوهج المشاعر فى الحركة الأولى التى كان حتى الخوف فيها متوهجاً كالحب. أما هنا فالـمُلك لليأس ولشعور طاغ باللا جدوى يصل قرب نهاية الحركة إلى قرار بالفراق :
لن نلتقى بعد
ليس لدى الغرفة ما نسرقه
ليس لدى أجسادنا ما نفضحه
ندبتان على رد فيك
وورم مراهق فى حلمتى
ص 41)
إنها الملالة الحتمية التى تعقب النشوة الاولى. لكنها هنا ملالة تسمح للعاشق الهارب من العالم لأحضان المرأة الوطن أن يرى بعينين بارزتين سخافة المحاولة :
هى ذى ملامحنا
بعد عشرين عاماً
تقف على الابواب
غريبة
مشدوهة
مخدوشة بالمخاوف
التى تدحرجت عليها
قبل عشرين عام
نهاية الحركة الثانية - ص 44
الحركة الثالثة :
حتى الآن استطاع الشاعر أن يحاكى بحق البناء السيمفونى فى قصيدته. فماذا أضافت الحركة الثالثة ؟ وهل نجحت هى أيضاً فى أن تأتى كتنويعه نغمية فى إطار وحدة الموضوع عادت القصيدة فى حركتها الثالثة إلى السخونة وفقدت نبرتها التأملية التى تميزت بها الحركة الثانية. ذلك أن القرار النظرى بحتمية الفراق لا يأتى عملاً عقلياً بارداً حين نحاوله فى الواقع الحى. لقد فشل الشاعر فى هجر محبوبته رغم السآمة، والنتيجة التى وصل إليها المنطق البارد. وأسقطت المحبوبة بدورها جنين العاشق، ربما لأنها قرأت فى عينيه أو فى وجه الواقع أنه طفل بلا مستقبل. رغم كل هذا، استمرت العلاقة - كما تحكى القصيدة - وعاد التوهج الشعورى ولكنه توهج الجرح المنكوء لا القلب المضئ :
السيمفونيون جميعاً
مبتهجون بالعزف
بالمدن الفارهة التى تتقافز
فوق الأوتار
ممسوسة بواهب الأسى
لا نسيان فيها
السميفونيون كل ليلة
ينكأون الجرح الذى
كل ليلة
أضمده بخبال الكحول
يذكروننى
بقيح التآريخ
وكناسة التفاصيل
بجسدين انهمكا عاماً كاملاً
فى صياغة أحبولة ..
ص ص - 58، 59)
الحركة الرابعة :
فى هذه الحركة القصيرة يعود الرضا عن المحبوبة، وهى عودة تبررها طبيعة الحب وتقلباته الشهيرة. ولكنه ليس رضا المفتون، بل رضا الإلف وقد ألف العش وارتاح إلى إلفه دون أن ينسى لحظة ما يحدث فى الخارج :
أنت فرحة جلبتها من الجبال
كى تشد من أزر الفتى المطرود
وتبتكر له فكاهة تعصمه من الجهامة
ص (65)
ولكن مع كل تقلبات الحب وانعكاس كل حال من أحواله على حركة من حركات القصيد السيمفونى، تظل الحقيقة واحدة وإن تعددت وتنوعت العواطف والحالات المزاجية التى تكتنفها. إنه حب مطارد ومجنون وبقاؤه يكاد يكون ضرباً من المحال :
أنا - بالكاد – أصدق
ما قاله جسدى
عن المجاعة؛
فكيف لى
أن أبيح مخيلتى
لامرأة تتفصدها
الفانتازيا ؟ ( ص - 71)
الحركة الخامسة :
تصور هذه الحركة الحب فى حال جديد هو حال البعد، حيث يزيد الاقتراب الوجدانى حضوراً والتصاقاً:
هنا فى الشمال البعيد أحبك أكثر
وأبصرك فى سطور الرسالة
قبلة خرساء
من شفتين تنتظران
مأوى فى بريدى
لكن البعد أيضاً يزيد من قدرة المرء على الإبصار، يجعله يرى بوضوح أكثر التجربة بكل أبعادها. والحركة الخامسة بهذا تشبه الثانية، ولكنها تفوقها فى القدرة على تلخيص التجربة:
لا شك كنا نهذى
وكنا رومانسيين
أنى لمحنا كوة للبوح
ظننا أن ما يتناثر منا
سيصير أثراً لخرافتين صغيرتين
أو اسمين لعرائس الأطفال
لم أك أعلم
أننا قنطرة لمن يركب الأطلسى إلينا
أما وجه الاختلاف الأهم بين الحركتين الثانية والخامسة أن الأخيرة وإن كانت موضوعية وليست باردة ولا يائسة.
إنها ترى بعيون صاحية أنه «لا مدن لنا، ولا نسيان» ولكنها مع ذلك تنتهى بقرار العاشقين معاً ألا يهجرا العش ولتأت الرياح بما تشاء؛ كما نرى فى المقطع الاخير من العمل:
- وقت من العصيان يصعد
- لا مانع
- تتأذى الذكريات
- لا شك
- نسأم؛ سنبادر بالقطيعة
لا محيص
- مجزرة على مقربة
- أحبك
- غرفتنا بلا سقف
- قِّبلنى
- ينظرنا الفضائيون
- أسترك بعورتى

- كيما نطهر هذا الخراب الدرامى بجماع أخير (ص ص - 84، 85)
إن طاهر البربرى يكتب قصيدة نثر من نوع خاص. فإحالاتها ليست حياة كل يوم كما يفعل معظم ممارسى هذا النوع، واللغة أكثر كلاسيكية من المعتاد فى قصيدة النثر دون السقوط فى التقليدية أو فى أية كليشيهات سواء كليشيهات التعبير الكلاسيكى أو تلك التى نجدها فى قصيدة النثر نفسها التى صنعت لنفسها بسرعة خارقة إحالاتها وصورها التقليدية (المقهى، الأصدقاء .. إلخ). وقد استطاع ببراعة فى هذا العمل (مدن فارهة للنسيان) أن يكتب قصيدة طويلة دون الوقوع فى الثرثرة وأن يكتبها نثراً دون الوقوع فى النثرية، واستعار لها قالباً مستمداً من الموسيقى الكلاسيكية دون أن يأتى هذا اختياراً فوقياً مقحماً على القصيدة، بل أفلح أن تأتى كل حركة من حركات قصيدته الخمس تنويعة نغمية فى إطار الوحدة كما نجد فى البناء السيمفونى للموسيقى الكلاسيكية، كما أفلح فى أن يصوغ رؤيته المركبة فى شعر متعدد الأصوات وإن كان الشاعر دائماً هو المتكلم، ولم يلجأ - إلا نادراً - للاختيار الشائع السهل وهو استخدام الحوار، بل وزع حالاته الفكرية والمزاجية النابعة من تجربة الحب وتقلباتها على آلات موسيقية مختلفة فكان أحياناً آلة نفخ وأحياناً وترية وتراوح بين الموسيقى الناعمة والعاصفة كما يقتضى الحال وكما هو جدير بسيمفونية.

الخميس، 21 أغسطس 2008

Twenty she-friends



What alienation is it?! Twenty she-friends।!And still you are not integratedWith pearl of intimacy!!As though, You were saving poemsIn her remote, far-flung windowsA bullet, since you lost her trace,Have turned around towards your chaste;To bestow mid age upon exile an' errantry।What alienation is it?!Twenty she-friends,And the same wintry sceneSettling in bed beside you.You who is ornamented with festoons Of slaughtered sparrows under your stem;Craziness bartered you With whatever you wished of seductionYet isle of forgetfulnessNever protected you from Remembrance turbulence.





Tahe Muhammed El-Barbary
Copyright ©2006 Tahe Muhammed El-Barbary

الثلاثاء، 19 أغسطس 2008

من رواية الحشد للأيرلندية آن إنرايت الفائزة ببوكر 2007



الحشد
آن إنرايت
ترجمة : طاهر البربري



1
أود أن أسجل ما حدث في بيت أمي صيف السنة الثامنة أو التاسعة من عمري، لكنني لست متأكدة تمامًا ما إذا كان هذا قد حدث أم لا. أنا بحاجة لأكون شاهد عيان على حدث غير مؤكد. أنا أشعر به يهدر داخلي ـ هذا الشيء الذي ربما لم يحدث أصلاً. أنا لا أعرف ماذا أسميه. أعتقد أنه يمكنك أن تطلق عليه جريمة ذات طبيعة بشرية، غير أن اللحم قد تراجع منذ وقتٍ طويل وأنا لست واثقة من الأذى الذي ربما يتخلف في العظام.
كان أخي ليام يحب الطيور، ومثل كل الأولاد، كان يحب عظام الحيوانات الميتة. أنا نفسي ليس لديّ أولاد، لذلك عندما أمر بأي جمجمة صغيرة أو هيكل عظمي أتردد وأفكر فيه، كيف كان يعجب بتعقيداتها. جناحان عتيقان لعقعق
[1] تأتيان في فوضى الريش؛ كثان خفيفان نظيفان. تلك هي الكلمة التي نستخدمها لوصف العظام: نظيفة Clean.
آمر بناتي أن يتراجعن خطوة للخلف، تحديدًا، بعيدًا عن فم الجمجمة في الغابة أو عصفور الدوري الميت الذي حملته الريح وتركته على سور الحديقة. لست واثقة لأي سبب. رغم أننا، أحيانًا، ما نجد على الشاطئ، عظمة حَبّار نقية جدًا لدرجة أنني أضطر لدسها في جيبي، وأريح يدي بملامسة بالمنحنى الغامض الأبيض لها.
لا يمكنك أن تُشَهر بالموتى، أعتقد أنه يمكنك فقط أن تأسى لأجلهم.
لذلك أعرض على ليام هذه الصورة: طفلتاي وهما يعدوان على الحافة الرملية لشاطئ حجري، تحت سماء وئيدة مضطربة، أكتاف معطفهما تهتز خلفهما. ثم أمحوها. أغلق عينيّ وأنجرف مع البحر بتشوشاته الصاخبة. وعندما أفتحهما ثانيةً، أكون عازمة على استدعاء البنتين للعودة إلى السيارة.
ريبيكا! إيميلي!
لا يهم. أنا لا أعرف الحقيقة، أو لا أعرف كيف أقول الحقيقة. كل ما لدي هو مجموعة من القصص، أفكار ليلية، القناعات المباغتة التي يفرخها انعدام اليقين. كل ما لديّ مجرد هذيانات ليس إلا. أحبته! أقول. لابد وأنها قد أحبته! أنتظر للإحساس الذي لا يستطيع صياغته سوى الفجر، عندما يجافيك النوم. أظل في الطابق الأرضي بينما الأسرة تتنفس فوقي وأسجلها، أصوغها في جمل جميلة، كل عظامي البيضاء النظيفة.
2
بعض الأيام لا أتذكر أمي. أنظر إلى صورتها فتهرب مني. أو أراها في يومٍ من أيام الأحد، بعد الغداء، ونقضي عصرية جميلة، وعندما أغادر أجد أنها انسلت إلى داخلي مثل الماء.
’إلى اللقاء،‘ تقول، وتكون قد خبت بالفعل. ’إلى اللقاء يا ابنتي الحبيبة،‘ وتومئ بوجهها الناعم العجوز لتلقي قبلة. لم تزل تصيبني بهذا الغضب الشديد. الطريقة التي تختفي بها حين أشيح بوجهي بعيدًا، وعندما أنظر، لا أرى فقط سوى الحواف. أعتقد أنني كنت سأمر بها في الشارع، لو أنها اشترت معطفًا جديدًا في حياتها. لو أن أمي ارتكبت جريمة فلن يكون هناك أي شاهد على ذلك ـ إذ أنها النسيان في حد ذاته.
’أين حافظة نقودي؟‘ اعتادت أن تسأل حينما كنا أطفالا ـ أو ربما سألت عن سلسلة مفاتيحها، أو نظارتها. ’هل رأي أحدكم حافظة نقودي؟‘ تصبح، خلال تلك الثواني المعدودة، هناك تقريبًا، عندما تمضي من الصالة، إلى المطبخ وتعود ثانيةً. حتى حينئذٍ لم نكن ننظر إليها ولكن في كل الأماكن الأخرى: وتكون هي مثل حملة من الهياج خلفنا، نوع من الإثم الجمعي، ونحن ننطلق في كل أنحاء الغرفة، مدركين أن عيوننا ستقع على الحافظة، المنتفخة بنية اللون، حتى لو كانت موجودة هناك وواضحة للعيان.
ثم يجدها بي. هناك طفل واحد فقط لا يستطيع فقط أن ينظر، ولكن أن يرى أيضًا. الهادئ.
’شكرًا لك، يا حبيبي.‘
للإنصاف، أمي شخص في غاية الغموض، من الممكن ألا تتمكن من رؤية نفسها. من الممكن أن تمر بطرف إصبعها على صف من البنات في صورة فوتوغرافية ولا تستطيع أن تميز نفسها بينهن. و، من بين كل أطفالها، أنا الوحيدة التي تشبه أمها لأعلى درجة، جدتي آدا. لابد وأن هذا مربكًا.
***
’أوه أهلاً،‘ قالت وهي تفتح باب الردهة، يوم أن سمعت عن ليام.
’أهلا، حبيبتي.‘ ربما تقول نفس الكلام للقطة.
’تفضلي. تفضلي،‘ وهي تقف على عتبة الباب، ولا تتحرك جانبًا كي تدعني أمر.
[1] العقعق: غراب أبقع طويل الذيل (المترجم).

قراءة في رواية (سحر أسود) لحمدي الجزار


السارد وتنوع الرؤى في رواية سحر أسود[1]
طاهر البربري
[2]


[الآلة التي أعرفها كما أعرف لون أظافري وسوء طويتي، الكاميرا المخبولة، الوحش، تقترب وتفضح، تبتعد وتكشف، تغوص في التفاصيل، تُبَصّر الأعمى، تصدم وتذل، تُجَمِلّ وتكذب وتعري الجميع من الثياب والنيات، تصطنع وتداري، تجمع الأضداد، والمتناقضات مزهوة بوجودها وحده، تسلبني الإرادة والاختيار، متهورة وهمجية، بربرية من زمن الأصنام الجديدة.] رواية سحر أسود ص. 162
لأن الرواية فن مخلص جدًا لكاتبها؛ للعالم الذي تطرحه وتحكي عنه؛ فالرواية ليست فنًا طيعًا أو سهلاً ولن تصبح هكذا أبدًا। ربما لأنها تجاوزت دورها كفن واستهدفت الحياة: الرواية كتاب الحياة؛ هامشها، ومتنها. لقد تجاوزت الرواية، في الآونة الأخيرة وجودها الفني لتتخذ مكانة أكثر سموًا، وقوة. مكانة جعلتها قابلة لأن تُنْعَت بأنها مثل كتاب الحياة. فهي ـ أعني الراوية ـ طارحة الأسئلة؛ والمُنَقِبة عن التفاصيل، وكاشفة الخفايا، وراصدة التحولات، ومُفْشية الأسرار بالغة القسوة عن الآدمي في زمكانيته/ زمكانياته المتعددة.



إن من الصعب بمكان محاولة كتابة ما يشبه القراءة النقدية حول رواية تفعل امتصاص قارئها بنهم، وشراهة مثل رواية سحر أسود للكاتب حمدي الجزار. ماذا بإمكان أي ناقد أو كاتب، أو حتى متلقي نموذجي للأدب أن يكتب عن الكتابة النابضة بالحياة الراهنة/ بالآني/ المؤلم/ الطائش/ الشجي/ الصاخب/ القابض/ الحلو/ اللاهث الذي تتجلى ملامح وجوده في قدرته على امتصاص كل المتناقضات، والتجذير لعالم مشحون ببدايات لا نهايات لها، أو، بالأساس، لا يخطط لأية نهايات. قديمًا كان الفن يرفض محاكاة العالم كما هو، ويُعلي من قيمة الفنان الذي يحاول محاكاة العالم كما ينبغي أن يكون أو كما لا ينبغي أن يكون. الآن أصبحت قدرة الفنان على محاكاة ما يتبلور في حدقتيه من العالم كافيًا لطرح أسئلة غاية في التعقيد عن هذا الآني وتحولاته اللاهثة والمباغتة في آن. ذلك لأن الحياة بواقعها باتت أكثر من أسطورية في مشهديتها وفي ممارسة الآدمي لوجوده فيها.
إن رواية سحرٌ أسود تحتفي بواقعية وارفة بكل عناصر العادي والمشترك. وفي لقطة جامعة واسعة تتسع لتمنح مشهدية شاسعة لشرائح آدمية تنصهر ـ رغم تباينها وتنافرها ـ في سياق مجتمعي كبير؛ تنفصم عرى العلاقة بين تفاصيله لكنها تقوى حين رصد مأزقه العام. ورغم كل هذه الواقعية التي تنطلق منها ولأجلها هذه الرواية إلا أنها تظل رواية مستعصية على التصنيف؛ وترفض الامتثال لرغباتنا النرجسية التي تحاول دومًا أن تنمذجها، وفقًا لقدراتنا المعرفية، ضاقت أم اتسعت. رواية سحر أسود من هذا النوع العصي الذي يرفض الانتماء لنموذج روائي بعينه. وبعبارةٍ أخرى، هي رواية تحمل ملامح الكثير من النماذج الروائية الأربعة التي قال بها باختين: رواية السفر (الرحلة)، رواية الاختبار، رواية البيوجرافيا (السيرة الذاتية)، ورواية التعلم.
إنها تقتفي أثر شخصياتها في رحلاتهم التي تبدأ من معرفة العالم والولع به إلى ناصية السأم واللانهاية واللاحركة إلى الوعي بالشرك الحياتي/ الوجودي حين تتكشف أمام وعيهم قسمات الحياة الحقيقية التي ينبغي التعامل معها قسرًا أو طواعيةً. ففي رواية سحرٌ أسود يمارس ناصر عطا الله [البطل المقترض] فعل الإخبار/ السرد عن حياة لا يدعي لها أية أهمية أو سطوة؛ هو بالأساس، لا يدعي لوجوده أية أهمية من أي نوع لكنه يخص عالمه ببالغ الاهتمام لأنه أيقونته الوحيدة؛ وتفاصيله الصغيرة البسيطة هي متنفسه وربما علة وجوده.
السارد في هذه الرواية يمثل أحد أهم العناصر البنائية في هذه الرواية. والسارد كما أشرت آنفًا هو "ناصر محمد عطا الله"، وهو في الوقت نفسه بطل الرواية ـ حتى لو اختلفنا حول مفهوم البطولة في الكتابة السردية والمسرحية في الفترة الراهنة؛ واكتفينا بأن ننعته بالشخصية المحورية. ولأن للسارد في رواية سحر أسود هيمنة على فعل السرد من بداية الرواية حتى نهايتها، فإنه تجدر بنا الإشارة هنا إلى أن العقد المُبْرَم بين الكاتب والقارئ ـ في هذه الرواية ـ تعاقد أوتوبيوجرافي وليس روائي؛ وعليه فقد سيطر ضمير المتكلم على العملية السردية
لماذا يبدو المثقفون أقل شرائح المجتمع تكيفًا مع ظرفهم الاجتماعي والحياتي؟ إنه سؤال الوهلة الأولى الذي استفزني كقارئ، وكأحد منتجات هذا الواقع لإكمال فعل القراءة حتى آخره. هذا السؤال هيمن بقوة على ذهني، مرةً أخرى، وأنا أعيد قراءة رواية "سحرٌ أسود" للكاتب الروائي حمدي الجزار. المُلفت للنظر، والمثير للدهشة في ذات اللحظة هي أن شخصية المثقف هذه، التي يطرحها الروائي، تمتلك من القدرة ما يجعلها تعلن بأشكال متعددة عن رفضها لـ (وعدم تكيفها مع) عالمها وظرفها الاجتماعي والحياتي، وأتطرف لأقول، والنفسي والإدراكي أيضًا؛ مع ذلك تتشبث وتعيش في حالة خدر دائمة. تتبنى القرارات ولا تنفذها. تُظهِر عدم الرغبة وتنصاع. لكنها لا تتمرد أو تثور. لا تنقلب أو تفقد خطوط سيرها. رغم هذا، أبدًا، لا تتكيف. والتكيف هنا له معنى أكثر دقة وعمقًا من مجرد التعايش الأليف؛ إنه القدرة على الفعل واختطاط المسار والتحقق.
من بداية الرواية يتعامل السارد الممسرح (ناصر عطا الله) مع نفسه على أنه هامش عالمه ولذلك يبدأ في بناء عالمه من الخارج؛ بل ويبدأ بتصوير عالمه هذا من حوافه لا من بؤرته ومتنه. فالعم ريحان الحانوتي هو أحد العناصر الممثلة لهامش/ حواف هذا العالم لأن وجوده جاء عرضيًا مؤقتًا. جاء مع انتقال ناصر عطا الله (المصور التليفزيوني) إلى الإقامة في حي جديد، في شقة جديدة في قلب القاهرة. حتى أنه ـ أعني الروائي حمدي الجزار ـ لم يمنح الفصل الأول ترقيمًا واتخذه كنقطة انطلاق لكادر كبير ممتد يبدأ من المشهد 0 حتى المشهد 36 هو الفصل الأخير في الرواية. لكن على الرغم من تدشينه لفعل السرد بمحاولة الاقتراب بعمق تصويري من شخصية ريحان الحانوتي الذي يجلس على باب دكانه ويقوم بخياطة الأكفان من أول النهار حتى آخره، إلا أن أول جملة في الرواية تقرر حقيقة أولية: نفي بطل الرواية (بصورة أدق الشخصية المحورية فيها) لشعوره بالرهبة من المكان ومن العجوز. لماذا احتلت كلمة (لا) السطر الأول في الرواية؟:
"لا.
لم أشعر برهبة من هذا المكان، أو بخوف من هذا العجوز الجالس على دكته الخشبية الصغيرة في مدخل البيت القديم، يخيط الأكفان البيضاء بابتسامة ثابتة تجمدت معها ملامح وجهه، ونظرته المقتحمة التي تتردد بين الإبرة والقماش والداخلين والخارجين من البيت. يتفحصهم طويلاً، بثبات، كأنه لا يراهم، تقريبًا، كأن عينيه ميتتان، أو هكذا يبدو لشخصٍ غريبٍ مثلي." الرواية ص. 5.
ربما كانت هذه الرهبة التي ينفيها ناصر عطا الله عن نفسه هي السبب الذي جعله كثير التنقل للعيش في أحياء القاهرة المختلفة (مدينة نصر، طريق الحبانية، الهرم، فيصل،...إلخ) رغم أنه أحد أبناء هذه المدينة في الأساس. إلا أنه سينصاع لممارسات أخيه الكبير مأمون عطا الله ويتركه يستولي على بيت العائلة، ليبدأ رحلة من التنقل الدائم بين أحياء وضواحي القاهرة. بطل هذه الرواية مستعد دائمًا (وهذا ملمح مستفز في شخصيته) أن يسمح لريحان باقتحامه:
"كنت على استعداد تام لإرواء نزق ريحان وشهوته الجامحة للاستطلاع، ومشاركته أسراري الشخصية التي كنت في حاجة ماسة لفضحها أم شخص عجوز حكيم مثله، يتعامل يوميًا مع الأجساد الناضجة المكتملة، التي تغادر الحياة وقد تخلصت من مأزقها. إنه يرى الناس في لحظة نضوجهم القصوى التي ليس بعدها شيء." الرواية: ص. 10.
إن في استعداد بطل الرواية (ناصر عطا الله الذي وُلِد يوم دفن عبد الناصر وسُميَّ بهذا الاسم كنوع من رثاء جمال عبد الناصر) السماح لريحان أن يقتحم عالمه وأسراره وتفاصيل حياته إشارة واضحة لإدراكه ووعيه الذاتي باتجاهاته السلوكية؛ غير أن استخدامه للقدرة على الاختيار يظهر، بشكل عام، في صورة السلوك المُعَطَل. ربما بدافع السأم من الحياة ومن رغبته فيها. أو ربما بدافع من عجزه عن التكيف. العجز الذي يعلن عنه صراحةً بين الحين والآخر. وللسارد دورٌ رئيسٌ في الإعلان عن ملامح عالم تَصِمَهُ الفوضى وتحركه أخلاقيات خبيئة هي ابنة واقع راهن له أيضًا معطياته ونتائجه. واقع تجاوز كل القياسات المنطقية وانطلق بطيش إلى فضاء فانتاستيكي غاية في الغرائبية وربما الترويع. واقع يكتبه روائي عبر سارد يحاول الحكي عن المعقول في واقع غير معقول. واقع يغيظ، ويُذهل ويُمْرض، ويشكل نوعًا من الحيرة لخيال المرء الذي صار ضئيلاً حياله. هل أصبح الواقع الفعلي ـ على حد تعبير مالكوم برادبري [الرواية اليوم] ـ يتغلب دومًا على موهبة الكاتب، ويقذفه كل يومٍ بشخصيات يحسدها عليه أي روائي؟ صحيح، من مثلاً يمكنه أن يبتدع شخصيات مثل ريا وسكينة، ماضغي الزجاج، وآكلي لحوم البشر، سماسرة السلاح، وكوادر المافيا، والانتحاريين، والقوادين ومزوري الانتخابات وبعض أصحاب الحقائب الوزارية؟!!
لقد تنوعت رؤية السارد في هذه الرواية. فأحيانًا ما تهيمن على عملية السرد الرؤية من الخلف Vision par Derriere
[3] وفيها "يتميز السارد بكونه يعرف كل شيء عن شخصيات عالمه، بما في ذلك أعماقها النفسية، مُخترقًا جميع الحواجز كيفما كانت طبيعتها. كأن ينتقل في الزمان والمكان دون صعوبة، ويرفع أسقف المنازل ليرى ما بداخلها وما في خارجها، أو يشق قلوب الشخصيات ويغوص فيها ليتعرف على أخفى الدوافع وأعمق الخلجات. تستوي عنده في ذلك جميع الشخصيات على اختلاف مستوياتها[4]. غير أن هذه الرؤية تُلزِم الكاتب باستخدام ضمير الغائب كي يقوم بالحكي بشكل مثالي. وهذا ما لم يلتزم به حمدي الجزار. فقد التزم بضمير المتكلم من البداية إلى النهاية؛ ويغوص في شخصياته إلى درجة أنه يتخيل صور أحلامهم، ونراه يتحدث عن قيلولة ريحان تحت بلكونته بعمق يجعل القارئ يتخيل السارد وقد أصبح كاتب سيناريوهات أحلام العجوز ريحان:
"....ويغفو في قيلولته اللذيذة. ينام كرضيع بعد دقائق قليلة من استلقائه على الدكة، ولا تفارق وجهه ابتسامته، كأنه يُداعب ملائكة طيبين، وعذراوات جميلات، ولا يرى في نومه ما أراه من كوابيس." الرواية ص. 6.
في نموذج آخر يعلن السارد المُمَسْرح عن أحد مناهجه في معرفة الآخرين/ العمق الجواني للآخر؛ فيقول:
"قلت لنفسي منذ سنوات طويلة إن أفضل طريقة لفضح الآخر هي أن تنظر في داخله مباشرةً، أن تطرق بوابته عبر عينيه ولا تجفل، لا تخافه حتى تراه وتعرفه وتُعَريه...." الرواية ص. 30.
في الفقرة السابقة نجد أن شخصية السارد تضاهي بدرجةٍ كبيرة الرؤية التي ينطلق منها في الحكي وإن قام بتعميق الرؤية بصورةٍ أوسع وهو يتقافز بين شخصيات عالمه بخفة مبهرة، حقيقةً، ودون أي مبالاة بالحدود المنهجية لهذه الرؤية. فأخذ ينحت ملامح الشخصية من الداخل بدقة وتقريرية، محاولاً ترسيخها بصورة يقينية عند المسرود له. غير أنه كان أكثر ميلاً لهذا التصوير الداخلي الدقيق مع أقرب شخصيات الرواية من عالمه. وفاتن شهدي هي أقرب الشخصيات في عالمه إليه؛ أو الشخصية التي طاولت في وجودها وممارساتها وتآريخها قامة الشخصية المحورية التي تمارس فعل السرد بضمير الأنا المتكلم. إن الإصرار على التمسك بهذه المنهجية في السرد مكنه أيضًا من عقد مقارنات بين شخصية فاتن وعالمه المهني؛ ولم يتوقف عند هذا فحسب، بل وأطلق أحكام تتجاوز كونها مجرد وجهات النظر. إنها تبلغ حد المعرفة اليقينية بعمق البناء الجواني لمحيطه المهني. نوع من التبصر. عدسة روحية أكثر حدة في اختراقها للتفاصيل المحيطة بها من عدسة الكاميرا الديجيتال التي كانت في فترة من الفترات تمثل حلم ناصر عطا الله المصور التليفزيوني الذي يرى بعينيّ رأسه وعين كاميرته وعيون روحه....:
"فاتن امرأة تخلو من الزيف والتصنع والتكلف......أقنعة ملونة من الزيت والجواش والترتر والخرز يدهنون بها وجوههم ويخرجون للقاء الناس مبتسمين ابتسامات بلاستيكية بحرص بالغ حتى لا تسيل الزيوت والألوان، وفي عالم ’الميديا‘ من لا يملك العدد الكافي من الأقنعة فإن فرصته في العمل والحياة أقل بطبيعة الحال. كلما زادت القدرة على إخفاء الشخص لنفسه كلما صار لامعًا ومرئيًا للجميع بشكل أفضل، يختفي اللحم والدم والحضور الشخصي لحساب العرض العام، لهذا يعيش أهل الميديا دائمًا في مواجهة جمهورهم أينما ذهبوا، يظهرون بكامل أدواتهم وحيلهم وأقنعتهم، فأفر من وجوههم....الفيلم السينمائي الوحيد الذي صورته فشل فشلاً ذريعًا، كما يقولون، بسبب فشلي في التكيف." الرواية ص. 46.
.....غير أن لعبة التنوع في استخدام رؤى السارد عبر الراوي العليم (بخصائصه المُلزِمة ـ من وجهة النظر النقدية) قد استهوت الروائي فأخذ يمزج بين الرؤية من الخلف والرؤية من الخارج Vision du
[5]dehors فأحيانًا ما يقوم ناصر عطا الله بوصف ما يرى ويسمع دون أن يتجاوز ذلك لما هو أبعد:
"تبدأ أصوات المشاجرة الليلية المعتادة تنبعث من خلف الحائط المشترك بيننا. أميز فيها أصوات العوانس الثلاث، كما يسميهن جمعة...... الليلة يضربها بغضب أكثر من المعتاد قليلاً، لأنها تمايصت في سوق الخضار مع المعلم عضمة الجزار حتى لا يدس الشغت في كيلو اللحم الكندوز....الأختان الأخرتان تنهنهان وتستجديان، بصوت خافت مكسور، وتتوسلان جمعة أن يكف عن ضرب أختهما. يتعب جمعة بسرعة من ضرب البنت الطويلة الفارعة، وأخيرًا تنتهي المشاجرة بجمعة يسب بنات الـ...." الرواية ص. 17.
من خلال هذا التنوع في الرؤى يستطيع الروائي حمدي الجزار عبر بطله ناصر عطا الله ترتيب وقائع عالمه دون أن يدعي أدنى مستوى من الحضور المركزي في بؤرة هذا العالم. فأحيانًا يحتل جمعة، جاره في المنزل، وأخواته الثلاث العوانس موقع الصدارة؛ بالضبط كما حدث مع ريحان في أول الرواية. في مشهد آخر نرى zoom in على شخصية أخرى تطفو على السطح لبرهة كفقاعة ضخمة ما تلبث أن تتلاشى. رغم ذلك ليس ثم من شعور بالطيش أو العشوائية. لقد تعامل حمدي الجزار بحرفية شديدة حين أضفى تطابقًا قويًا بين بطل الرواية ومهنته. فهو المصور الذي أبدًا لم ينس أنه مُصَوِر حتى وهو يتكلم. يعرف كيف يرى من خلف عدسة الكاميرا التي يحملها؛ ويعرف أيضًا كيف يرى بعينيّ رأسه، إضافةً إلى بصيرته التي كثيرًا ما يُنكرها على نفسه حين يتهم نفسه بالغباء والسذاجة:
[ماذا يُسمي الناس هذا الشخص الذي يُصِر على التشبث بالخطأ مقابل الآخرين، مقابل العالم كله، وكأن أمامه الأبدية ليخطئ؟ يسمونه مغفلاً، ساذجًا، أهطلاً. أنا أسميه باسمي، فمن امرأة لأخرى، من وجهٍ لآخر، من ناس لآخرين. لا أكف عن العشق، ولا أكف عن السقوط المريع من الدور الثلاثين على الإسفلت العاري، أسقط دون أن يقاسمني أحد. دون أن يعرف أحد. الرواية ص. 82.]
هناك عدة مستويات للفقد في هذه الرواية؛ فالفقد عند ناصر عطا الله يتجلى في وجود فقدان المركز والغاية. إذ أنه منذ قام أخوه مأمون عطا الله ضابط الجيش بالاستيلاء على بيت العائلة وهو في حالة من التنقل الدائم من مكان لآخر ومن حي لآخر؛ ومن ثم يغلب الإيقاع الدراماتيكي على شكل حياته. هناك جديد دائمًا ينتظره في كل مستقر جديد. وبطبيعة الحال، شخصية كهذه لها وقع غرائبي على بيئتها الاجتماعية أيًا كان مكانها. هناك فقد أيضًا للغائية. وسؤال يطرح نفسه، بقوة، دائمًا أبدا: لماذا تُعاش الحياة طالما أن مركزها غائبًا، وغائيتها مضببة أو غير موجودة أصلاً؟ أيضًا شخصية فاتن شهدي في الرواية تأتي لتعلن عن نفسها كمعادل آخر للفقد. فهي ـ أعني فاتن شهدي ـ امرأة مقبلة على نهاية العقد الخامس من حياتها، رغم ذلك لم تبحث بنهم عن الحياة. الحياة الحقيقية. حتى علاقتها ذات البعد الجسداني (الروحاني في أضيق الحدود) بناصر عطا الله موصومة بالنقص والارتباك، ومن ثم بالفقد لأنتفاء غائيتها. هي علاقة تقوم وتسقط وتقوم وتسقط عبر طرفيها وما يشوبهما من تشوش وتوتر وفوضى. إنه الفقد الطاعن في تدريب ضحاياه على العيش فقط بلا غائية، بلا أحلام أو أمصال واقية من حيله البارعة في اصطيادهم.
الرواية، وكما ذكرت من قبل، قادرة على إنتاج الغريب عبر رصد العادي والمشترك. الحكايات البسيطة وقد أصبحت ناضجة بما يكفي لإنتاج الدهشة والترويع والمخاوف. العادي والمشترك الذي نتوخي أن نصبح من ضحاياه. الحياة المقامِرة بنا؛ والتي لسذاجتنا نتصور طوال الوقت أننا نقامر بها تنتفخ وتنفجر في كل الوجوه بغتةً ودون سابق إنذار.


[1] حمدي الجزار، رواية سحر أسود، دار ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، 2005.
[2] كاتب ومترجم مصري.
[3] انظر T. Todorov: (LesCategories du recit). In L’analyse Structurle du recit
[4] عبد العالي بوطيب: مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي بين الاختلاف والائتلاف، مجلة فصول، زمن الرواية، الجزء الأول، المجلد الحادي عشر، العدد الرابع، شتاء 1993، ص. 72، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
[5] انظر T. Todorov: (LesCategories du recit). In L’analyse Structurle du recit.

خاطرة


يا للوحشة،
عشرون صاحبةً ولست أراك مكتملاً بلؤلؤة الغرام.
كأنك كنت تدخر القصائد في نوافذها البعيدة.
طلقةٌ ـ مُذ غابت أماكنها استدارت صوب صدرك.
لتُعير للتجوال والمنفى انتصاف العمر.
ياللوحشة:
عشرون صاحبةً، والمشهد الشتوي يفترش السرير إلى جوراك.
أنت المكلل باليمامات الذبيحة تحت جذعك
قايضك الجنون بما أردت من الغواية
فما أوتك جزيرة النسيان
من صخب التذكر.